11/04/2012

الفصول الاربعة و تستمر الحياة




تمر الأيام تباعا لا نحس معها بأفول الزمن, حتى نرى صورنا حين كنا صغارا ، فتتغير بعض من ملامحنا و الكثير من الأحاسيس، تختفي جل ذكرياتنا قسرا و نتناسى جزء ا منها .
أحب أمي و أبي، أحنو على أخي رغم قسوتي عليه حينا ،أحب أخواتي رغم أنني كبرت بعيدا عنهما ، أحب أصدقائي أحب كل الناس لم أكره يوما أحدا ، و أتمنى أن لا يكرهني أحد يوما ، و من هنا تبتدأ حكاية الفصول الأربعة.


كان شتاء ا قاسيا علي عصف بأحلامي ,حملتني رياحه من مكان لمكان تتلاطمني الأمواج بلا شفقة و لا رحمة, قاومت غدر الزمان و قسوة الظروف, كنت ألمح بصيصا من الأمل يتراءى لي من بعيد, طأطأت رأسي و الحزن يعتصر قلبي, لم يغفر لي أهلي زلتي.
 تقبلت قسوة أحبابي, نظرات الشفقة في أعين الآخرين كانت تخترق حشاي, شتاء حياتي لم تتوقف زوابعه و أعاصيره, كانت تهب تباعا, رحلت مع أول فرصة سنحت ,حين جثمت على ركبتاي عاجزا, فقدت كل شيء أحلام الطفولة عزم الشباب, كنت كمن يجري خلف السراب, حتى خارت قواي لملمت وريقاتي أبحث لي عن ملجأ لأكمل مسيري; تخلى عني المجتمع و لفظني فلا مكان للفاشلين في هذا العالم الوقح.
 صرخت بأعلى صوتي أريد فرصة كنت أسمع صدى صوتي فقط و لا من مجيب, كان كل ما تبقى لي ذكريات جميلة عشت على أملها, عدت أدراجي إلى مدينة الداخلة, حيث نشأت و ترعرعت, وجدت منزلنا  فارغا ينتظرني, أمضيت فيه أياما طوالا.
 قلبت ليلي نهارا و نهاري ليلا, أمضيت كل وقتي وحيدا لا أخرج إلا نادرا  و غالبا ليلا, كان مؤنسي قط عشت معه أياما لن أنساها ما حييت ,فرغم شغبه فقد كان صديقي أفهمه قبل أن يتكلم بلغته و هو كان يحس بي فيرتمي في حضني يهون علي.
 أسئلة كثيرة حيرتني, لماذا صار معي كل هذا ماذا فعلت حتى أنال هذا العقاب, بقيت أتأرجح بين الاستسلام  و الأمل,  كانت هي تلك البقعة البيضاء وسط العتمة من تمنحني رغبة البقاء.
كان شتاء حياتي قاسيا جدا ,حاولت الاختباء لأحمي نفسي و أحتفظ ببعض من كبريائي ,كنت مجروحا أنزف وحيدا, احتضرت مرات و مرات, لكن يومها فقط أدركت أنني سأحيى و سأنهض من جديد, حملت أمتعتي و قررت أنها ستكون البداية .
و نهاية شتاء العمر العاصف.


حملت ما تبقى لي من متاع الدنيا, بدأت المشوار خطوة خطوة, ابتعدت عن كل أحزاني السابقة, قررت أن أحب الحياة رغم قسوتها, رفعت شعار التحدي أولا و أخيرا, بحثت كثيرا بين دواليب الحكمة علي أنهل منها النزر القليل ,كانت مكناس إحدى المحطات التي مررت منها, أمضيت أياما لا تنسى, ففي هاته المدينة تعرفت على أصدقاء كانوا كالجواهر, التقينا جمعتنا ظروف متشابهة, كل من مدينة تشاركنا الحلوة و المرة ,تقاسمنا كل شيء هناك المأكل و الملبس .
كنت قررت حينها أن أخرج نفسي من دوامة الحزن القاتلة, بحثت عن شيء عن كل شيء أجد فيه فرحة حتى لو كانت مؤقتة لا يهم, أعدت اكتشاف نفسي من جديد, كانت ثقتي تزداد يوما عن الآخر, حافظت على بعض من عاداتي القديمة, كنت محبا لسهر الليل و أشجانه ,استهوتني القراءة حينها كنت ألتهم بنهم كل ما تقع عليه يداي.
 أحيانا كثيرة كنت أكتفي بمراقبة الآخرين عن بعد, لم يعد يهمني أن أفهم أي شيء, فكل الأشياء تستعصي على الفهم إذا لم نحبها, أتذكر يوما فقذت فيه نظاراتي فتلكأت في إصلاحها, لكني احتفظت بعدسة في جيبي استعملها حين يستعصي علي الإبصار, فأضعها بين إبهامي و سبابتي و أشاهد للحظات ما أريد ,كنت أبدو كالأخرق لم يكن يهمني, كنت مستمتعا بعدم رؤية الآخرين.
 رحلت بعدها إلى مراكش الحمراء, أمضيت فيها أحلى سنين العمر ,بقيت وفيا لذكرياتي في مكناس و أصدقائي هناك, اتخذت قرارا أن أقفل على نفسي, كنت أؤثث وحدتي بالاستماع إلى المذياع و كتابة القصص, اكتسبت  بعض القسوة  أواجه بها الآخرين حتى لا يقتربوا مني, قاومت و قاومت كنت أتذكر الوعد الذي قطعته على نفسي فتزداد عزيمتي و يقوى إصراري على النجاح رغم الظروف القاسية.
 كنت محط احترام الجميع رغم أنني كنت أبدو ذلك الشخص الغريب الوحيد, الذي لا يخالط الآخرين.
 كان هذا ربيع العمر حيث أزهرت فيه ورودي الذابلة من جديد.
و انتهى ربيع العمر الجميل.


رحلت بعدها إلى البيضاء أحمل أحلاما كبيرة كبر الجبال, في نجاح أحصده رغم معرفتي مسبقا بصعوبة العيش في مدينة الإسمنت المسلح, الكل هناك يجري وراء السراب و لا أحد يمسكه, لكن الجميع يبقون يجرون و يجرون, كنت مقاتلا لا أخشى شيئا, ركبت القطار باحثا لي عن مكان لأواصل المسير, بدأت نظرتي تتغير شيئا فشيئا .
التم شمل الأصدقاء من جديد, كانوا خير سندا لي في بداياتي, كافحت و كافحت كنت حملت معي قليلا من نخوة أهل الصحراء, باشرت عملي الأول في معمل السكريات, تعرضت لشتى أنواع الضغوطات,لكني كنت قد مللت من الاستسلام و الهزيمة, قررت أن أواجه الجميع, عملت بجد و نزاهة ,حتى حفرت لنفسي مكانا في تلك القلعة العتيدة ,بدأت أكتشف البيضاء شيئا فشيئا, أحببت المدينة رغم قساوة العيش فيها, كنت اصنع سعادتي من لا شيء, بدأت أموري في الاستقرار شيئا فشيئا, أحببت التحديات التي رفعتها في وجه الجميع , بدأت أحصد النجاحات تباعا.
 تعرفت على أناس جدد, كنت أجلس في المقهى و أحرص على مطالعة الجرائد و تخطيط  بعض الأسطر بعد أن استرجعت هوايتي الضائعة, لكن هاته المرة في شكل آخر, أصبحت أكتب لأستمتع طاوعني قلمي و أصبح جزء ا مني, شكلت عدة شخصيات كل واحد منها يحمل جزء ا مني كنت فرحا و أنا أطوعها بسلاسة.
منزلي الصغير كنت أحب الاعتناء به, أجد متعتي حين ألج المطبخ لأغسل ما أجده من أواني و أطبخ بعض المأكولات ، أنام و أستيقظ ,مرت الأيام تباعا نسيت معها نفسي ,فجأة استيقظت بداخلي ذلك الفتى الثائر, بدأ يضايقني و يبحث له عن مخرج بعد أن حاصرته بروتين الحياة .
ذات يوم وجدت نفسي مخنوقا في مدينة البيضاء, حتى العمل اضحيت فيه محاصرا بين أباطرة لا يرحمون فإما أسايرهم أو ارحل, آثرت الرحيل .
حان وقت فراق البيضاء انتهى معها صيف حياتي المشمس و بدأت نفحات الخريف تهب عليه ..


لم يكن لي بد من الهروب, هروب بطعم الهزيمة, انطلقت صوب مدينة طنجة العالية ,احمل قلبي بين يدي ,كانت بداياتي ها هناك تنذر بالأحسن, لكن الخريف متقلب تارة يعصف و تارة يلطف.
 اختلطت علي الأوراق و تسارعت علي الأحداث, بقيت أتخبط لا أدري ما أفعل أحسست أنني تورطت في عالم ليس عالمي, واصلت المقاومة بكل ما امتلكت من شجاعة المحارب, و الأنكى من كل هذا وجدتني أسيرا لشخصيات صنعتها من الخيال ,ألغت وجودي أصبحت أراقبها تعبث بي ,لا حول لي ولا قوة, أصرخ كمن يجثم على صدره كابوس مخيف, إنه ليس أنا ليس أنا, كنت أصرخ عاليا لكن لا أحد يسمعني ,كنت أسمع قهقهاته و هو يقول: الزم مكانك فلم يعد لك وجود بعد اليوم.
 بدأت أوراقي تتساقط تباعا, حجم الأحداث التي تحولت فجأة إلى ذكريات مؤلمة, هشمت قلبي الصغير, قلبا زجاجيا تحطم آلاف القطع , تناثرت هنا و هناك, فسقطت آخر أوراقي, حملت ما استطعت و تركت العالم ورائي, عملي الجديد متاعي, أعلنت استسلامي آسفا.
 نظرت إلى المرآة بدأ الشيب يغزو رأسي , رأيت حينها شخصا كنت قد أقبرته يعود من جديد بكل عيوبه و سيئاته, أخذ بيدي يجرني وراءه و يقول: هذه دورة الحياة يا صديقي لا عليك .
فعلا كان محقا دورة الحياة شتاء ربيع صيف و خريف ثم يعاود الشتاء ظهوره بعواصفه و هزاته.
عدت إلى مدينتي الداخلة سأواجه شتاء حياتي من جديد و عيني على ربيع مزهر.
و تبدأ الرحلة من جديد.

هناك 10 تعليقات:

  1. تبا كم انت رائع .. عشتُ حياتَك في بضعة اسطر , ارتعدتُ من زمهرير شتاءك و كحلتُ عيناي بورد ربيعك و ازدادت سمرة قلبي بحرارة صيفك و تبعثرت اوراقي كما اوراقك في الخريف ! ارجو ان يضل قلمك مطواعا لإبداعك اخي :)

    ردحذف
    الردود
    1. شكرا على مرورك و على كلماتك الرقيقة شادين كما أحب أن أناديك دائما و في إنتظارك قريبا :)

      حذف
  2. باضدادها تعرف الاشياء ,فلابد للربيع من شتاء قاس تتفتح بعده الازهار و لا بد من حزن يسبق الفرح ليجعل له طعما خاصا.. تلك هي الحياة لا تسير على وثيرة واحدة..
    هنيئا لك بهذا الاسلوب الذي ينتزع القارئ من عالمه و يحلق به عاليا في رحلة مثيرة. دمت متألقا (:

    ردحذف
    الردود
    1. و كعادتك دائما أستمتع بتعليقاتك يا غزلان و كما قلت إن هي إلا بأضدادها تعرف الأشياء في إنتظار ما تخطينه :)

      حذف
  3. السلام عليكم.. طريقة جميلة في رسم محيى لحياتك في فصول أربع قرأتها بتمعن مواضبا في سفر... وما العمر ان لم يكن نجاحات و انتكاسات، ثم ما النهار ان لم يكن فصولا أربع، حياتنا جمال باختلافها و تضارب عقاربها...

    واصل تميزك بالتوفيق..

    ردحذف
    الردود
    1. شكرا على مرورك يا طيب و ما الحياة إلا تعاقب للفصول بحلوها و مرها و تستمر برغم كل شيء

      حذف
  4. ",استهوتني القراءة حينها كنت ألتهم بنهم كل ما تقع عليه يداي.
    أحيانا كثيرة كنت أكتفي بمراقبة الآخرين عن بعد, لم يعد يهمني أن أفهم أي شيء, فكل الأشياء تستعصي على الفهم إذا لم نحبها, أتذكر يوما فقذت فيه نظاراتي فتلكأت في إصلاحها, لكني احتفظت بعدسة في جيبي استعملها حين يستعصي علي الإبصار, فأضعها بين إبهامي و سبابتي و أشاهد للحظات ما أريد ,كنت أبدو كالأخرق لم يكن يهمني, كنت مستمتعا بعدم رؤية الآخرين."

    أحببتُ ربيعكَ أكثر من بقية سنتك. أناأراكَ من سكان كوكب الكتبان حيث الربيع يأتي في السنة متى ما أردتَ. لاتبدوا لي عجوزا شتائياً, فقط جرب استحضار ربيعك وسيحضر.

    دائماً ما أحترم شجاعة الكتاب الذين يشركوننا حدثاً حقيقياً حصل لهم وأنت هنا أشركتنا أحداث حياتك كلها بأسلوبٍ يُونوسيٍّ مميز, احترم شجاعتك حقاً.

    "و الأنكى من كل هذا وجدتني أسيرا لشخصيات صنعتها من الخيال ,ألغت وجودي أصبحت أراقبها تعبث بي ,لا حول لي ولا قوة, أصرخ كمن يجثم على صدره كابوس مخيف, إنه ليس أنا ليس أنا, كنت أصرخ عاليا لكن لا أحد يسمعني ,كنت أسمع قهقهاته و هو يقول: الزم مكانك فلم يعد لك وجود بعد اليوم."

    اتّهموا كونان دويل بأنه قتل شخصيته-أو حاولَ بالأحرى- الشهيرة"شارلوك هولمز" لهذا السبب بالضبط. يبدو أن الصراع بين المخيلة الخصبة وإثبات الذات مستمر للأبد والمستفيد الأول هو القارئ :). كقارئة ضحكتُ كثيراً مع كوتومبو وغيره و عرفت يُونُس في توتر كلكم شخصيات تستحق المتابعة.

    ردحذف
    الردود
    1. قرأت تعليقك أكثر من مرة بتمعن و الله أفخر بمعرفتك دائما أختي شفاء شكرا على كلماتك سأعمل بها اما الربيع فهو الشهر المفضل كتبت في بإحساس عالي ، أما شخصياتي فهي طيبة سأحاول التعايش في إنسجام فلا مجال لإلغائها ؛ حفظك الله و رعاك

      حذف
  5. لامست قلبي بكتابتك! فعلا جد فخورة بمعرفتك.

    ردحذف
  6. مؤثرة كلاماتك، دنيا عدوة المقاومين

    عابر خفف الوطء

    ردحذف

Comments System

Disqus Shortname